عدد اليهود في الجزائر: تاريخ، تطورات، واقع وحاضر
يُعتبر التواجد اليهودي في الجزائر ظاهرة تاريخية تعود لقرون عدة، حيث شكلت الجالية اليهودية جزءًا مهمًا من النسيج الاجتماعي والثقافي في البلاد عبر مراحل متعددة من تاريخها. لكن الحديث عن عدد اليهود في الجزائر اليوم يستلزم فهم خلفية تاريخية واسعة تحيط بالجالية اليهودية في الجزائر، من نشأتها إلى تطوراتها الاجتماعية والسياسية، وصولاً إلى واقعها الحالي وما آلت إليه من تغييرات كبيرة خلال القرن العشرين وحتى الآن.
خلفية تاريخية لليهود في الجزائر
بدأ وجود اليهود في شمال إفريقيا بشكل عام والجزائر بشكل خاص منذ العصور القديمة، ويرتبط أصلهم باليهود الذين هاجروا إلى شمال إفريقيا من شبه الجزيرة الإيبيرية والشرق الأوسط إثر الاضطهادات التي تعرضوا لها في مختلف الفترات التاريخية. ويُعتقد أن اليهود استقروا في الجزائر بشكل خاص منذ العهد الروماني، حيث كانت لهم جاليات وعلاقات تجارية وثقافية مع السكان المحليين.
شهدت الجزائر فترة ازدهار لليهود خاصة في العصور الوسطى، حيث تمتعوا بحقوق واسعة، وشاركوا في الحياة الاقتصادية والثقافية للبلاد، وتكاثروا خاصة في المدن الكبرى مثل وهران، الجزائر العاصمة، وقسنطينة. كان اليهود في الجزائر جزءًا من المجتمع المتعدد الأعراق والثقافات، بما في ذلك العرب والأمازيغ والفرنسيين.
اليهود في الجزائر خلال الاحتلال الفرنسي
مع الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830، بدأت مرحلة جديدة من التغيرات التي أثرت بشكل كبير على وضع اليهود. في عام 1870، أصدر الاحتلال الفرنسي “مرسوم كريميو” (Crémieux Decree)، الذي منح اليهود الجزائريين الجنسية الفرنسية بشكل تلقائي، مع استثناء واضح للسكان المسلمين الذين لم يحصلوا على نفس الجنسية. كان لهذا القرار تأثير كبير على التوازن الاجتماعي، حيث جعل اليهود في موقع مميز قانونياً مقارنةً بالسكان المسلمين.
هذا الامتياز القانوني دفع بالعديد من اليهود إلى تبني الثقافة الفرنسية، والاندماج في النظام الإداري والقانوني الجديد، وحققوا نجاحات بارزة في المجالات الاقتصادية والتعليمية. ومع ذلك، فإن هذا التمييز القانوني خلق أيضًا حالة من التوتر بين الجاليات، خصوصاً بين اليهود والمسلمين.
تأثير الحركات القومية والاستقلال على اليهود
مع تصاعد الحركة الوطنية الجزائرية ونضالها من أجل الاستقلال عن فرنسا، شهد اليهود تحولات معقدة في مكانتهم ومواقفهم. بعد إعلان استقلال الجزائر في 1962، تغير الوضع الجيوسياسي والاجتماعي بشكل جذري، حيث انخفض عدد اليهود في الجزائر بشكل كبير.
كان اليهود من بين الذين غادروا البلاد بأعداد كبيرة خلال وبعد فترة الاستقلال، متأثرين بعدة عوامل منها القلاقل السياسية، وتنامي الشعور القومي العربي، ومخاوف التمييز أو الاضطهاد، إضافة إلى الروابط الثقافية والقانونية مع فرنسا التي سهلت انتقالهم إليها. خلال فترة الخمسينيات والستينيات، انخفض عدد اليهود من عشرات الآلاف إلى بضعة آلاف فقط.
عدد اليهود في الجزائر اليوم
اليوم، يقدر عدد اليهود المقيمين في الجزائر بأعداد قليلة جداً، لا تتجاوز مئات قليلة إن لم تكن أقل من ذلك، وفقاً لمعطيات مختلفة من مصادر محلية ودولية. لم يبقَ في الجزائر مجتمع يهودي منظم كما كان في السابق، لكن توجد بعض العائلات التي لا تزال مقيمة، فضلاً عن وجود تراث يهودي تاريخي وثقافي محفوظ في بعض المواقع.
تشير التقديرات إلى أن عدد اليهود في الجزائر اليوم يتراوح بين 50 إلى 200 شخص، معظمهم من كبار السن، إذ أن الهجرة الكبيرة التي حدثت في العقود الماضية جعلت الجالية اليهودية في الجزائر شبه منعدمة في الأنشطة الاجتماعية والمؤسسات الدينية والثقافية. كذلك، لا توجد معابد يهودية عاملة بكثرة، لكن هناك بعض المواقع التاريخية التي تحظى باهتمام للحفاظ عليها كجزء من التراث الوطني.
العوامل التي أدت إلى تناقص عدد اليهود في الجزائر
يمكن تلخيص أهم العوامل التي أدت إلى تناقص عدد اليهود في الجزائر فيما يلي:
-
الاستقلال والانتقال السياسي: مع نهاية الاحتلال الفرنسي وقيام الدولة الجزائرية المستقلة، شعر كثير من اليهود بعدم الاستقرار أو انعدام الأمان، مما دفعهم إلى الهجرة.
-
الهجرة إلى فرنسا: وجود الجنسية الفرنسية والروابط الثقافية مع فرنسا سهلت انتقال اليهود إلى هناك، حيث استقر معظمهم في المدن الفرنسية مثل باريس، مرسيليا، وليون.
-
تغيرات اجتماعية وثقافية: بعد الاستقلال، شهدت الجزائر تحولاً نحو الهوية العربية الإسلامية، مما أثر على الجاليات غير المسلمة.
-
تدهور أوضاع الحريات الدينية: في بعض الفترات، شهد اليهود قيوداً على ممارساتهم الدينية والثقافية، مما قلل من نشاطاتهم وجعل استمرار الجالية أمراً صعباً.
التراث اليهودي في الجزائر
على الرغم من التناقص الكبير في عدد اليهود، إلا أن التراث اليهودي في الجزائر ما زال قائماً، ويظهر من خلال بعض المعابد القديمة، والكتابات والنصوص التي تعود لمئات السنين، وكذلك في تقاليد وعادات بعض الأسر اليهودية التي بقيت.
بعض المدن مثل قسنطينة ووهران والجزائر العاصمة تحتفظ ببقايا من معابد يهودية ومقابر تاريخية تمثل جزءًا من تاريخ الجالية. كما يوجد اهتمام متزايد من مؤسسات تراثية وجامعية في دراسة التراث اليهودي الجزائري وتوثيقه.
مقارنة عدد اليهود في الجزائر مع الدول المجاورة
بالنظر إلى الوضع في دول شمال إفريقيا الأخرى، نجد أن الجزائر هي الدولة التي شهدت أكبر تناقص في عدد يهودها، مقارنة بالمغرب وتونس حيث ما زالت توجد جاليات يهودية صغيرة نسبياً.
في المغرب مثلاً، يُقدّر عدد اليهود بحوالي 2000 إلى 3000 شخص، وتوجد نشاطات دينية وثقافية يهودية واضحة، وكذلك في تونس حيث تقدر الجالية اليهودية بألفي شخص تقريباً. أما في ليبيا ومصر، فقد انخفض عدد اليهود إلى أرقام تكاد تكون منعدمة أو قليلة للغاية، مشابهة للوضع في الجزائر.
الجدول التالي يوضح تقديرات أعداد اليهود في بعض دول شمال إفريقيا اليوم:
| الدولة | تقدير عدد اليهود الحالي | ملاحظات |
|---|---|---|
| الجزائر | 50 – 200 | أغلبهم كبار السن، قليل النشاط |
| المغرب | 2000 – 3000 | توجد جاليات نشطة ومؤسسات |
| تونس | حوالي 2000 | وجود معابد ونشاطات دينية |
| ليبيا | أقل من 50 | تقارب من العدم |
| مصر | أقل من 100 | جالية متناقصة جداً |
خاتمة
إنّ وجود اليهود في الجزائر عبر التاريخ كان عنصراً هاماً من مكونات التنوع الثقافي والاجتماعي في البلاد. رغم التغيرات السياسية والاجتماعية الكبرى التي أثرت على وضع هذه الجالية، إلا أن أثرها الثقافي لا يزال حاضراً في بعض المواقع التاريخية والتراثية. أما عدد اليهود اليوم في الجزائر فهو قليل جداً، إذ تمثل الجالية اليوم أقلية صغيرة جداً تتواجد بشكل محدود ومعظمها من كبار السن.
تجسد هذه الحالة مثالاً واضحاً على تأثير التحولات السياسية والاجتماعية على التكوينات السكانية والثقافية في المنطقة، وتُعد الجالية اليهودية في الجزائر نموذجاً يعكس تحولات عميقة في التاريخ الحديث لشمال إفريقيا.
المصادر:
-
تاريخ اليهود في الجزائر – مجلة الدراسات المغاربية، 2019
-
Jewish Virtual Library – Algeria: Jewish Population and History, 2023
